سورة الأنعام - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}
اعلم أنا روينا في الآية الأولى أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته، فبيّن الله تعالى في الآية الأولى أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم أنا لا نعرف محمداً عليه الصلاة والسلام، لأنهم يعرفونه بالنبوّة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة، فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حق من الله تعالى.
وأعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون علمهم بنبوة محمد عليه السلام مثل علمهم بأبنائهم وفيه سؤال وهو أن يقال: المكتوب في التوراة والإنجيل مجرد أنه سيخرج نبي في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الدين الحق، أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعين الزمان والمكان والنسب والصفة والحلية والشكل، فإن كان الأول فذلك القدر لا يدل على أن ذلك الشخص هو محمد عليه السلام، فكيف يصح أن يقال: علمهم بنوته مثل علمهم بنبوة أبنائهم، وإن كان الثاني وجب أن يكون جميع اليهود والنصارى عالمين بالضرورة من التوراة والإنجيل بكون محمد عليه الصلاة والسلام نبياً من عند الله تعالى، والكذب على الجمع العظيم لا يجوز لأنا نعلم بالضرورة أن التوراة والإنجيل ما كانا مشتملين على هذه التفاصيل التامة الكاملة، لأن هذا التفصيل إما أن يقال: إنه كان باقياً في التوراة والإنجيل حال ظهور الرسول عليه الصلاة والسلام أو يقال: إنه ما بقيت هذه التفاصيل في التوراة والإنجيل في وقت ظهوره لأجل أن التحريف قد تطرق إليهما قبل ذلك، والأول باطل لأن إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب ممتنع، والثاني أيضاً باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن يهود ذلك الزمان، ونصارى ذلك الزمان عالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم علمهم بنبوة أبنائهم، وحينئذٍ يسقط هذا الكلام.
والجواب عن الأول: أن يقال المراد ب {الذين ءاتيناهم الكتاب} اليهود والنصارى، وهم كانوا أهلاً للنظر والاستدلال، وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصلاة والسلام، فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولاً من عند الله، والمقصود من تشبيه إحدى المعرفتين بالمعرفة الثانية هذا القدر الذي ذكرناه.
أما قوله: {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ففيه قولان: الأول: أن قوله: {الذين} صفة للذين الأولى، فيكون عاملهما واحداً ويكون المقصود وعيد المعاندين الذين يعرفون ويجحدون.
والثاني: أن قوله الذين خسروا أنفسهم ابتداء. وقوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} خبره، وفي قوله: {الذين خَسِرُواْ} وجهان:
الأول: أنهم خسروا أنفسهم بمعنى الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب الكفر والثاني: جاء في التفسير أنه ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله منزلتة في الجنة، فمن كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورث منزلة غيره.


{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)}
اعلم أنه تعالى لما حكم على أولئك المنكرين بالخسران في الآية الأولى بيّن في هذه الآية سبب ذلك الخسران، وهو أمران: أحدهما: أن يفترى على الله كذباً، وهذا الافتراء يحتمل وجوهاً: الأول: أن كفار مكة كانوا يقولون هذه الأصنام شركاء الله، والله سبحانه وتعالى أمرهم بعبادتها والتقرب إليها، وكانوا أيضاً يقولون الملائكة بنات الله، ثم نسبوا إلى الله تحريم البحائر والسوائب.
وثانيها: أن اليهود والنصارى كانوا يقولون: حصل في التوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ والتغيير، وأنهما لا يجيء بعدهما نبي.
وثالثها: ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28].
ورابعها: أن اليهود كانوا يقولون {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وكانوا يقولون {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80].
وخامسها: أن بعض الجهال منهم كان يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء، وأمثال هذه الأباطيل التي كانوا ينسبونها ألى الله كثيرة، وكلها افتراء منهم على الله.
والنوع الثاني: من أسباب خسرانهم تكذيبهم بآيات الله، والمراد منه قدحهم في معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، وطعنهم فيها وإنكارهم كون القرآن معجزة قاهرة بينة، ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذين الأمرين قال: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا وفي الآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان.
وأما قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} ففي ناصب قوله: {وَيَوْمَ} أقوال: الأول: أنه محذوف وتقديره {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الابهام الذي هو أدخل في التخويف، والثاني: التقدير اذكر يوم نحشرهم، والثالث: أنه معطوف على محذوف كأنه قيل لا يفلح الظالمون أبداً ويوم نحشرهم.
وأما قوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} فالمقصود منه التقريع والتبكيت لا السؤال، ويحتمل أن يكون معناه أين نفس الشركاء، ويحتمل أن يكون المراد أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم، وعلى كلا الوجهين: لا يكون الكلام إلا توبيخاً وتقريعاً وتقريراً في نفوسهم أن الذي كانوا يظنونه مأيوس عنه، وصار ذلك تنبيهاً لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة، والعائد على الموصول من قوله: {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} محذوف، والتقدير: الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء، فحذف مفعول الزعم لدلالة السؤال عليه، قال ابن عباس: وكل زعم في كتاب الله كذب.


{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
أعلم أن هاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} بالتاء المنقطة من فوق وفتنتهم بالرفع، وقرأ حمزة والكسائي {ثُمَّ لَمْ يَكُنِ} بالياء وفتنتهم بالنصب، وأما القراءة بالتاء المنقطة من فوق ونصب الفتنة، فهاهنا قوله أن قالوا: في محل الرفع لسكونه اسم تكن، وإنما أنث لتأنيث الخبر كقوله من كانت أمك أو لأن ما قالوا: فتنة في المعنى، ويجوز تأويل إلا أن قالوا لا مقالتهم وأما القراءة بالياء المنقطة من تحت، ونصب فتنتهم، فهاهنا قوله أن قالوا: في محل الرفع لكونه اسم يكن، وفتنتهم هو الخبر.
قال الواحدي: الاختيار قراءة من جعل أن قالوا الاسم دون الخبر لأن أن إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر، فكما أن المظهر والمضمر، إذا اجتمعا كان جعل المضمر اسماً أولى من جعله خبراً، فكذا هاهنا تقول كنت القائم، فجعلت المضمر اسماً والمظهر خبراً فكذا هاهنا، ونقول قراءة حمزة والكسائي: والله ربنا بنصب قوله ربنا لوجيهن: أحدهما: بإضمار أعني وأذكر، والثاني: على النداء، أي والله يا ربنا، والباقون بكسر الباء على أنه صفة لله تعالى.
المسألة الثانية: قال الزجاج: تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك، وذلك أن الله تعالى بيّن كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين على حبه، فاعلم في هذه الآية أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤا منه وتباعدوا عنه، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين: ومثاله أن ترى إنساناً يحب عارياً مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه، فيقال له ما كانت محبتك لفلان، إلا أن انتفيت منه فالمراد بالفتنة هاهنا افتتانهم بالأوثان، ويتأكد هذا الوجه بما روى عطاء عن ابن عباس: أنه قال: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} معناه شركهم في الدنيا، وهذا القول راجع إلى حذف المضاف لأن المعنى ثم لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة، ومثله قولك ما كانت محبتك لفلان، إلا أن فررت منه وتركته.
المسألة الثالثة: ظاهر الآية يقتضي: أنهم حلفوا في القيامة على أنهم ما كانوا مشركين، وهذا يقتضي إقدامهم على الكذب يوم القيامة، وللناس فيه قولان: الأول: وهو قول أبي علي الجبائي، والقاضي: أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتجا عليه بوجوه:
الأول: أن أهل القيامة يرعفون الله تعالى بالاضطرار، إذ لو يعرفون بالاستدلال لصار موقف القيامة دار التكليف، وذلك باطل، وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار، وجب أن يكونوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح بمعنى أنهم يعلمون أنهم لو راموا فعل القبيح لمنعهم الله منه لأن مع زوال التكليف لو لم يحصل هذا المعنى لكان ذلك إطلاقهم في فعل القبيح، وأنه لا يجوز، فثبت أن أهل القيامة يعلمون الله بالاضطرار، وثبت أنه متى كان كذلك كانوا ملجئين إلى ترك القبيح، وذلك يقتضي أنه لا يقدم أحد من أهل القيامة على فعل القبيح.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه لا يجوز منهم فعل القبيح، إذا كانوا عقلاء إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال: إنه وقع منهم هذا الكذب لأنهم لما عاينوا أهوال القيامة اضطربت عقولهم، فقالوا: هذا القول الكذب عند اختلال عقولهم، أو يقال: إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا.
والجواب عن الأول: أنه تعالى لا يجوز أن يحشرهم: ويورد عليهم التوبيخ بقوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ} [الأنعام: 22] ثم يحكي عنهم ما يجري مجرى الاعتذار مع أنهم غير عقلاء، لأن هذا لا يليق بحكمة الله تعالى، وأيضاً فالمكلفون لابد وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة، ليعلموا أنهم بما يعاملهم الله به غير مظلومين.
والجواب عن الثاني: أن النسيان: لما كانوا عليه في دار الدنيا مع كمال العقل بعيد لأن العاقل لا يجوز أن ينسى مثل هذه الأحوال، وإن بعد العهد، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور ولولا أن الأمر كذلك لجوزنا أن يكون العاقل قد مارس الولايات العظيمة دهراً طويلاً، ومع ذلك فقد نسيه، ومعلوم أن تجويزه يوجب السفسطة.
الحجة الثانية: أن القوم الذين أقدموا على ذلك الكذب إما أن يقال: إنهم ما كانوا عقلاء أو كانوا عقلاء، فإن قلنا إنهم ما كانوا عقلاء فهذا باطل لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي كلام المجانين في معرض تمهيد العذر، وإن قلنا إنهم كانوا عقلاء فهم يعلمون أن لله تعالى عالم بأحوالهم، مطلع على أفعالهم ويعلمون أن تجويز الكذب على الله محال، وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلا زيادة المقت والغضب وإذا كان الأمر كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب.
الحجة الثالثة: أنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على هذين النوعين من القبح والذنب وذلك يوجب العقاب، فتصير الدار الآخرة دار التكليف، وقد أجمعوا على أنه ليس الأمر كذلك، وأما إن قيل إنهم لا يستحقون على ذلك الكذب، وعلى ذلك الحلف الكاذب عقاباً وذماً، فهذا يقتضي حصول الاذن من الله تعالى في ارتكاب القبائح والذنوب، وأنه باطل، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدام أهل القيامة على القبيح والكذب.
وإذا ثبت هذا: فعند ذلك قالوا يحمل قوله: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أي ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا، وذلك لأن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم كانوا موحدين متباعدين من الشرك.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير: يكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم أخبروا بأنهم كانوا غير مشركين عد أنفسهم، فلماذا قال الله تعالى: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} ولنا أنه ليس تحت قوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} أنهم كذبوا فيما تقدم ذكره من قوله: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} حتى يلزمنا هذا السؤال بل يجوز أن يكون المراد انظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا في أمور كانوا يخبرون عنها كقولهم: إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك والكذب يصح عليهم في دار الدنيا، وإنما ينفى ذلك عنهم في الآخرة، والحاصل أن المقصود من قوله تعالى: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} اختلاف الحالين، وأنهم في دار الدنيا كانوا يكذبون ولا يحترزون عنه وأنهم في الآخرة يحترزون عن الكذب ولكن حيث لا ينفعهم الصدق فلتعلق أحد الأمرين بالآخر أظهر الله تعالى للرسول ذلك وبين أن القوم لأجل شركهم كيف يكون حالهم في الآخرة عند الاعتذار مع أنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون على أنفسهم ويزعمون أنهم على صواب. هذا جملة كلام القاضي في تقرير القول الذي اختاره أبو علي الجبائي.
والقول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين أن الكفار يكذبون في هذا القول قالوا: والدليل على أن الكفار قد يكذبون في القيامة وجوه:
الأول: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون} [المؤمنون: 107] مع أنه تعالى أخبر عنهم بقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] والثاني: قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} [المجادلة: 18] بعد قوله: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} [المجادلة: 14] فشبّه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.
والثالث: قوله تعالى حكاية عنهم {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] وكل ذلك يدل على إقدامهم في بعض الأوقات على الكذب.
والرابع: قوله حكاية عنهم {وَنَادَوْاْ يامالك مالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] وقد علموا أنه تعالى لا يقضي عليهم بالخلاص.
والخامس: أنه تعالى في هذه الآية حكى عنهم أَنَّهُمْ قالوا: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وحمل هذا على أن المراد ما كنا مشركين في ظنوننا وعقائدنا مخالفة للظاهر. ثم حمل قوله بعد ذلك {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} على أنهم كذبوا في الدنيا يوجب فك نظم الآية، وصرف أول الآية إلى أحوال القيامة وصرف آخرها إلى أحوال الدنيا وهو في غاية البعد.
أما قوله إما أن يكونوا قد كذبوا حال كمال العقل أو حال نقصان العقل فنقول: لا يبعد أن يقال إنهم حال ما عاينوا أهوال القيامة، وشاهدوا موجبات الخوف الشديد اختلت عقولهم فذكروا هذا الكلام في ذلك الوقت وقوله: كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عنهم ما ذكروه في حال اضطراب العقول، فهذا يوجب الخوف الشديد عند سماع هذا الكلام حال كونهم في الدنيا ولا مقصود من تنزيل هذه الآيات إلا ذلك.
وأما قوله ثانياً المكلفون لابد أن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقول: اختلال عقولهم ساعة واحدة حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمال عقولهم في سائر الأوقات. فهذا تمام الكلام في هذه المسألة والله أعلم.
أما قوله تعالى: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} فالمراد إنكارهم كونهم مشركين، وقوله: {وَضَلَّ عَنْهُم} عطف على قوله: {كَذَّبُواْ} تقديره: وكيف ضل عنهم ما كانوا يفترون بعبادته من الأصنام فلم تغن عنهم شيئاً وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9